التعليم الذكي: رفاهية أم ضرورة؟ (الجزء الثاني)


عن الجزء الأول من المقالة

في الجزء الأول من هذه المقالة تناولت المفاهيم الأساسية الأربعة في التعليم وماهية التغييرات المطلوبة في كل منها، والتحديات التي تواجه التعليم التقليدي، وفي هذا الجزء الثاني والأخير من المقالة، أستكمل تناول ميزات التعليم الذكي، مبتدئاً باستعراض النموذج الرائد للتعليم في الجامعة، ومشيراً إلى المبادرات الهامة التي تشكل معالم لافتة في مسيرة الجامعة، ومبيناً على نطاق أوسع وأشمل التحديات الراهنة والمستقبلية التي تستدعي حلولاً يوفرها التعليم الذكي بكفاءة. يمكنك الاطلاع على الجزء الأول من المقالة هنا.

نموذج رائد

في الجامعة الذكية قمنا بتصنيف الدارسين ضمن أربع فئات في شكل هرمي يمثل نموذج الفئات الأربع للدارسين، وتمثل قاعدة هذا الهرم فئة الدارسين غير المنتظمين، وهؤلاء هم الأفراد الذين يمثلون جمهور الندوات العامة أو حلقات العمل أو المؤتمرات. أما الفئة الثانية، فهم الدارسون الملتزمون، وفي هذه الفئة يتعلق الأمر بالتطوير المهني الذي توفره الجامعة، بحيث يصبح الدارسون جزءًا من الجامعة. وبعد ذلك لدينا الفئة الثالثة، وتتضمن الدارسين المنتظمين، ونقدم في هذه الفئة برامج أكاديمية قائمة على البحث العلمي مثل شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، أما في قمة الهرم فهناك الدارسون المتابعون، فئة تشمل المدراء والتنفيذيين، وتتوفر فيها فرص التواصل وبناء الشبكات المهنية، والتطور المهني من خلال تبادل الخبرات.

بهذا الصدد وكي نتمكن من الوصول بالتعليم إلى الجمهور على أوسع نطاق، كانت جامعة حمدان بن محمد الذكية الجامعة الأولى في العالم العربي التي أقدمت على العمل مع مركز التعليم الترفيهي للأطفال في دبي، كيدزانيا، فمنذ أربع سنوات يرتاد الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 4 و12 عاماً هذا المركز التعليمي ويزورون منصة الجامعة بأعداد متزايدة كل عام.

تعلم مع رشفات من القهوة

ينطلق انضمامنا إلى كيدزانيا من اهتمامنا بالتوجه إلى مختلف الأعمار، وهذا يمثل جزءاً  من جهود الجامعة لإتاحة التعليم، لكن الأمر يتعدى هذا النشاط الذي يستهدف النشء الصغير وبراعم الغد، إذ أن أهم مبادرة قامت بها الجامعة بخصوص إتاحة التعليم كانت مبادرة حمدان بن محمد للتعليم المجتمعي الذكي، وهي منصة للتعليم الذكي تستفيد من مفهوم التعلم في ثالث الأمكنة (الأولان هما السكن ومكان العمل)، إذ أننا أبرمنا مؤخرًا علاقة شراكة مع ستاربكس في دبي لتوفير المنصة في 27 فرعاً من فروع ستاربكس، وهكذا عندما يرتاد الشباب المقهى لتناول القهوة، فإنهم ينهلون من المعرفة أيضاً.

تمثل إتاحة التعليم ميزة رئيسية للتعليم الذكي، لكنها ليست الوحيدة، فالميزة الثانية هي المرونة، إذ يجب أن يتمتع التعليم بالمرونة، فهناك الكثير من الناس لا يمكنهم متابعة التعليم بسبب ظروفهم الخاصة التي لا تسمح لهم بمتابعة التعليم. ودعني أضرب مثلاً على هذه الميزة. ففي آخر حفل تخرج أقامته الجامعة ثمة فتاة شاركت في تقديم الكلمة الترحيبية باسم خريجي الجامعة، وهذه الفتاة كانت خريجة برنامج الماجستير في الجامعة. وقد قالت في كلمتها إنها الآن مقعدة ولا تستطيع المشي وتستعين بكرسي متحرك، وأضافت: "كنت قد أنجزت 70 % من برنامج الماجستير في جامعة أخرى، لكن فجأة تعرضت لحادث سيارة أصابني بالشلل. قبل ذلك، كنت سليمة معافاة مثلكم تماماً لكني الآن أسيرة كرسي متحرك وجامعتي أغلقت الأبواب بوجهي وفصلتني من الدراسة فيها، وبذلك اختفى شعاع الأمل من حياتي، لكني ما لبثت أن استعدت الأمل عندما فتحت هذه الجامعة أبوابها لي وقالت: على الرحب والسعة، لأن لدينا منظومة تعليم مرنة،" وختمت الخريجة كلمتها بالقول: "أشعر الآن بالامتنان والفخر لحصولي على درجة الماجستير مع مرتبة الشرف الأولى."

هذه من فوائد المرونة، الميزة الثانية في التعليم، فماذا عن الميزة الثالثة للتعليم الذكي وهي كلفة التعليم الميسرة؟ بهذا الشأن ثمة قول مشهور، وهو "إذا كنت تظن أن التعليم باهظ الكلفة، فجرب الجهل". تشير هذه العبارة إلى أن تكاليف التعليم تحرم نصف سكان الأرض من التعليم، لكني أستحضر هذا المثل لأؤكد على أن الجهل باهظ الكلفة، ولا يجب أن يكون التعليم كذلك، إذ أن التحول إلى التعليم الذكي يوفر الكثير من التكاليف التي يتحمل أعباءها الطلاب وأولياء الأمور. وبذلك نكون قد استعرضنا الأركان الثلاثة للتعليم الذكي التي لا بد لأي خدمة تعليمية أن تطبقها حتى تكون ذكية.

تكامل لا تفاضل

يظن البعض أن الجامعة الذكية تمثل تهديداً لنهج التعليم التقليدي، وأن من شأن هذا التهديد أن يطيح بالتعليم كما نعرفه ويحل بديلاً له. لكن واقع الحال أن المنظومة التقليدية في التعليم سوف تبقى قائمة رغم المآخذ التي أشرنا إلى بعضها، ومنها أن ثمة قطاعاً لا يستهان به من المجتمع مستثنى من دائرة هذه المنظومة، لذا فمحور الحديث هنا هو توسيع دائرة التعليم والوصول بخدماته إلى عدد أكبر ممن لا تصل إليهم المنظومة التقليدية. بهذا يتضح أن المسألة ليست تفاضلاً بل هي مسألة تكامل.

ولكي تكون الصورة واضحة، دعني أضرب هذا المثال الذي يتحدث عن قصة الأخوين رايت، وحلم تحويل طيران الإنسان إلى حقيقة، وهو مشروع بدأه الأخوان رايت في العام 1902 ولم يصبح واقعاً بالنسبة للناس حتى عام 1928. ولا بد أن نشير هنا إلى أنه عندما تمكنت أول طائرة من العبور فوق الأطلسي، صدرت الكثير من الصحف في الولايات المتحدة وأوروبا بعنوان بارز موحد على جانبي الأطلسي: "المغامرون".

بفضل الجرأة التي تميز بها هؤلاء "المغامرون"، نحن ننعم اليوم بخدمات الطيران. ومن المفيد التنويه هنا أن الطيران لم ينتشر ولم تصبح مزاياه بارزة للعيان حتى الحرب العالمية الثانية، حين تمكنت القوات الجوية التي تستخدمه من إحراز النصر في تلك الحرب. أما عن الطيران التجاري فلم يعتده العالم إلا في عام 1958، أي أن الأمر استغرق من 1928 إلى 1958حتى أصبحت فكرة السفر بالطائرة واقعاً، لا بل أصبحت وسيلة السفر المفضلة لرجال الأعمال، فلو طلبت من أحدهم اليوم أن يسافر بالسفينة لحضور اجتماع عمل لاستهجن الأمر، رغم أن السفن ما تزال مستخدمة وسيلة للسفر والتنقل.

ضربت المثل بوسائل المواصلات لأقول إن أساليب التعليم الحالية ستظل موجودة، لكن استخدامنا لها واستفادتنا منها ستكون مختلفة اختلافاً كلياً، لكن ما هو مؤكد أن أسلوب التعليم كما عرفناه عبر عصور لن يظل هو النموذج الرئيسي للتعليم. وبعبارة موجزة، فإن ما أسميه التعليم الذكي كان في الأمس محض خيال علمي، واليوم ربما لا يكون خياراً للبعض، رغم أنه خيار للبعض الآخر، لكنه في المستقبل الخيار الأمثل بكل تأكيد.

أرقام مفزعة وحلول مشجعة

تحدثنا في السطور السابقة عن الوضع القائم والتحديات الراهنة، فماذا عن المستقبل؟ في هذا الشأن أعتقد أن ما نتطلع إليه في رؤيتنا المستقبلية هو أننا نريد توفير تعليم مجاني للعالم العربي الذي يبلغ تعداد سكانه 450 مليون نسمة. ولا حاجة بي للتأكيد أني لا أقصد التعليم النظامي السائد بما فيه برامج البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، بل أعني نموذج الفئات الأربع للدارسين الذي فصلت مزاياه سابقاً، وهو النموذج المؤهل لتحقيق هذه الغاية التي وإن كانت تبدو عصية على التحقيق، إلا أنها ممكنة.

من نافلة القول أننا بحاجة إلى توفير المعرفة لاستنقاذ أجيال من غائلة الفقر والجهل، حتى يتمكن الناس من دخول سوق العمل والحصول على حياة كريمة وتكوين عائلة، وهذا هو بالضبط ما نطمح إليه في الرؤية المستقبلية للجامعة، رؤية لا ننكر أنها تنطوي على تحديات كبيرة، ليس بسبب طبيعة الرؤية التي لدينا، بل لأننا في الجامعة نتجاوز كوننا مؤسسة أكاديمية ونرى أنفسنا مشروعًا أكاديميًا مفتوحاً على آفاق التطلعات.

في هذا السياق، من المفيد أن أتحدث عن التعليم وحاجاته في العالم العربي من موقع آخر، تحديداً من موقع منصبي الآخر في اليونسكو، فقد قدمنا مشروع المدارس الذكية، وخاصة في مناطق الكوارث ومناطق الصراعات حول العالم، فنحن إذا ما أردنا تطبيق هذا المشروع في العالم العربي واستثمار إمكانياته، فلا يمكننا التغافل عن أزمة اللاجئين، ومنهم اللاجئون السوريون، والتي أصبحت مشكلة عالمية، فعندما نوفر المدارس الذكية نتمكن من تلبية احتياجات هؤلاء الناس وبذلك لن يفوتهم قطار التعليم.

ثمة إحصائيات صادرة عن منظمة اليونيسيف تفيد أن المنظمة أنفقت 600 مليون دولار قبل 3 سنوات لتعليم 60 ألف طالب، وليس من المبالغة القول أننا لو استفدنا من إمكانيات التعليم الذكي فهذا المبلغ يكفي لتعليم 3 ملايين طالب، وليس 60 ألف طالب. هذا هو بالتحديد ما نحاول تحقيقه في المستقبل في إيصال التعليم إلى الجميع، وتلكم هي الرؤية المستقبلية التي نمتلكها وهذا ما نطمح إليه، وهو أن نتمكن من إيصال نعمة التعليم إلى المحرومين منها كافة في الوطن العربي، بما يشمل مناطق الكوارث والصراعات، ولست أذيع سراً عندما أذكر أن لدينا الآن في العالم العربي 17.5 مليون طفل خارج المدارس، فإذا أردنا تقديم التعليم إلى هؤلاء الناس حتى من خلال هيئة دولية مثل الأمم المتحدة فسوف تمر عدة قرون قبل أن نتمكن من تحقيق ذلك.

عود على بدء

مما تقدم، يتبين بلا أدنى شك أننا في العالم العربي لا نملك رفاهية الوقت فيما يتصل بتطوير التعليم، فإذن لا بد من تسريع وتيرة التغيير الذي يقتضيه نشر التعليم الذكي على أوسع نطاق، هذه هي توجهات حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة وهذه هي توجيهات سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله.