التعليم الذكي... رفاهية أم ضرورة ؟


ميلاد رؤية

شهدت المنطقة والعالم العربي عموماً ميلاد رؤية استثنائية في التعليم مع حلول العام 2001، ألا وهي رؤية سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي.

وقد كان من ثمار هذه الرؤية جامعة حمدان بن محمد الذكية، هذه الثمرة التي أنضجتها على مدى السنوات الماضية توجيهات سموه الذي أراد لها كما عبر عن ذلك يوم افتتاح الجامعة في 30 سبتمبر 2002 أن تكون "نواة مؤسسات التعليم العالي بما في ذلك الجامعات على امتداد العالم العربي قاطبة"، وذلك لأن سموه يؤمن إيمانًا راسخاً بأن نظام التعليم الحالي لا يوفر لهذه المنطقة الجغرافية من العالم من التمكين ما يكفي لمواجهة تحديات المستقبل وإعداد أجيال الغد.

ولما كانت الجامعة تعتمد نظام التعليم الذكي، فلا بد لنا من استجلاء أبعاد هذا النظام التعليمي الجديد، إذ أن مفهوم "التعليم الذكي" قد لا يكون واضحاً في الأذهان، لكن ما هو مؤكد أن تحول التعليم إلى تعليم ذكي أو إلكتروني أو رقمي هو تغيير تام في التفكير والممارسة، من هنا كان التعليم الذكي نقلة نوعية في المفاهيم الأساسية الأربعة كما نعرفها جميعاً كمتخصصين بالتعليم.

1. الدارسون
نبدأ بالدارسين، فقد طرأ تغيير كبير على دور الدراسين في بيئات التعليم الذكية يرقى إلى درجة التغيير الجذري مقارنة بدوره المعهود، ذلك أن الطلاب والدارسين في هذه المنطقة كانوا حتى وقت قريب يتعلمون من أساتذتهم بالتلقين، لكن التعليم الذكي يقتضيهم الآن أن يأخذوا بدفة القيادة، أو بعبارة أخرى "الدارسون أولاً"، وهو ما يعني التركيز على الدارسين وإعطائهم الأولوية في العملية التعليمية، خلافاً لما هو معهود في التعليم السائد.

2. هيئة التدريس
على المنوال نفسه، لا يستثني التغيير دور هيئة التدريس الذي شهد تغييراً مماثلاً، إذ تطور هذا الدور من التدريس إلى التدريب والتوجيه والإشراف، وهي أدوار تلقي أعباء إضافية على كاهل المعلمين، فكما هي الحال في الرياضة، يمتاز دور المدرب بصعوبة بالغة كما في كرة القدم أو البيسبول أو أي رياضة أخرى. ونظراً لأن هذا الدور يرتكز إلى معطيات دائمة التحول، فإنه يجب توفير التدريب والتأهيل المستمر لأعضاء هيئة التدريس حتى يكون لديهم الوعي بطبيعة التعليم الذكي ومبادئه.

3. المنهاج الدراسي
أما المكون الثالث فهو المنهاج الدراسي، فنحن نشهد في وقتنا الحالي طوفاناً معرفياً وتقنياً غير مسبوق في تاريخ البشرية، فكل شيء متاح بين يديك، وما عليك سوى أن تستشير جوجل إذا أعوزتك معلومة، وذلك ما يستدعي توجهاً جدياً نحو إحداث تغيير جذري في المناهج، فلا يمكن لأحد أن يتغاضى عن أن هذا الانتشار الكاسح للمعلومات يمثل تحدياً لنا يتمثل في الكشف عن إمكانياتنا الفكرية بوصفنا مربين وأساتذة وأكاديميين، لذا كان لا بد من تكييف المناهج الدراسية مع تطور المعرفة وانتشارها، فالتعليم الذكي مفهوم جديد يفرض تحدياً بما يخص تطوير القدرات التي يتمتع بها المدرسون والأساتذة في مؤسسات التعليم كافة.

4. بيئة التعليم
بالنسبة للمكون الرابع، بيئة التعليم، فقد طالتها أيضاً يد التغيير، لأن هذه البيئة سابقاً كانت تتمثل في القاعة الدراسية أو قاعة المحاضرات أو غرفة الصف، في حين أن بيئة التعليم اليوم هي الهاتف المحمول أو الجهاز اللوحي أو الحاسوب المكتبي، ولا غرابة أن هذا التحول في بيئة التعليم سيولد مفاهيم جديدة مختلفة كلياً تتناسب مع حجم التغيير ومقتضياته.

مقاومة التغيير

في ضوء ما سبق، ليس من المبالغة القول إن التعليم الذكي، شأنه شأن كل المكتشفات والمخترعات على مر العصور، يأتي بصدمة التغيير، لذا فهو لا يلقى الترحيب اللائق والإقبال المستحق، لا سيما أن التغيير الذي يفرضه التعليم الذكي يضطر المعنيين بالتعليم والمجتمع عموماً إلى الانتقال من حالة الاستقرار إلى حالة عدم الاستقرار. وعلى ذلك، فإن التحدي الأكبر أمامنا هو نشر الوعي بأن التعليم الذكي يمثل حلاً للمشكلات العديدة التي نواجهها. فإذا ما اعترفنا أن لدينا مشكلات في التعليم، فمن البديهي أن نتخلى عن الطرق التقليدية التي أدت إلى هذه المشكلات. وكما قال أينشتاين:" لا يمكن أن نحل المشكلة باستخدام نفس أسلوب التفكير الذي استخدمناه في صناعتها ".

هكذا علينا أن نعترف أننا نواجه الكثير من المشكلات، ولا أدل على ذلك من أن التعليم حالياً لا يدركه كثير من الناس، وأنه لم يصبح بعد تلك الوسيلة المتوفرة للجميع، رغم أنه من المفترض أن يكون كذلك باعتباره حاجة أساسية لا غنى عنها إن لم نقل كالحاجة للماء والهواء، لكن الواقع يقول إن الكثيرين محرومون من التعليم. من هنا لا بد من نقلة عملية في التعامل مع الخدمة التعليمية.

تحديات راهنة

لما كان من غير الممكن نشر التعليم الذكي على نطاق واسع دون إحداث تغييرات جوهرية، فلا بد أن يستتبع ذلك تحديات على شتى المستويات، ومن هذه التحديات ضرورة ملاءمة الشروط السائدة في الوقت الحالي والمفروضة على المؤسسات التعليمية لطبيعة التعليم الذكي، مثل اشتراط عدد محدد في الصف لا يمكن زيادته، ومن قبيل اشتراط مبالغ مالية معينة يجب دفعها بخصوص السكن والتأمين الصحي، وما إلى ذلك من هذه الالتزامات التي لا حصر لها. فلا بد من النظر في مثل هذه الأمور لأنها تمثل عائقاً يحول دون الاستفادة من التعليم الذكي.

أما العائق الثاني فهو موقف مسؤولي الاعتماد الأكاديمي، فهؤلاء أسرى التعليم التقليدي ، ولا يبدو أنهم من أنصار التغيير، وهو موقف أسهمت في ترسيخه عوامل عديدة يضيق المقام عن حصرها وتعدادها، لكن من أهمها قوائم تصنيف وترتيب الجامعات حول العالم، فمجرد النظر في هذه القوائم يؤكد أن ثمة معايير جامدة تسيطر على المؤسسات التعليمية، ولا بد لأي جامعة تسعى لاعتلاء هذه القوائم أن تلتزم بهذه المعايير، في حين أن هذه المعايير لا تناسب طبيعة التعليم الذكي ومستقبل التعليم، ومن هنا يمثل موقف مسؤولي الاعتماد الأكاديمي عائقاً آخر من هذه العوائق.

"فيراري" يجرها حصانان

لا يفوتنا في هذا الشأن القول إن مسؤولي الاعتماد الأكاديمي رغم إصرارهم على هذا الموقف كثيراً ما يشيدون بالتعليم الذكي، ومع ما ألمسه من الإصرار على تطبيق الشروط الآنفة وسواها، يحلو لي تشبيه الأمر بمن يقتني سيارة "فيراري" لكنه مضطر لاستخدام حصانين لجر السيارة! هنا لا بد من الاعتراف بأن تغيير هذا الموقف يستلزم مد جسور التعاون في مختلف المؤسسات الوطنية وتضافر الجهود، فضلاً عن استلزامه وقتاً ليس بالقصير. هكذا نقول إن هذه العوائق ستبقى لبعض الوقت، بيد أن التغيير قادم لا محالة، وليس هذا التغيير من قبيل هبوب عاصفة عابرة نحني الرؤوس لها حتى تمر، بل هو تغيير شامل على مستوى التعليم يقتضي من القائمين على التعليم في العالم العربي امتلاك روح المبادرة، إن لم يكن للسير في طليعة المجتمعات فللحاق بركبها.

أولويات متحولة

بإلقاء نظرة على مشهد التعليم التقليدي الراهن، نرى أن ما يحظى لدينا بالأهمية في الأساليب المتبعة حالياً يأتي في مقدمته الإدارة العليا وإدارة الموظفين وإدارة المرافق والإدارة المالية، وعندما يتعلق الأمر بأهم جزء في هذه المنظومة، ألا وهو إدارة العملية التعليمية، لا نحرك ساكناً ولا نشعر بالتقصير ولا نكترث كثيراً أننا نترك في صحراء الجهل الآلاف وربما الملايين، لا بل نعمد إلى تبرير هذا القصور بالقول: لا بأس، السوق تتغير ويجب علينا أن نراعي متطلبات السوق ومتطلبات القوة العاملة وهلمّ جراً.

تناولت فيما سبق بعض المشكلات والعوائق في مشهد التعليم، لكن ما يثلج الصدر أننا استطعنا تحقيق قفزة للأمام في التفكير في هذه المشكلات على الأقل إن لم يكن في حلها، وذلك ما أفضى بنا إلى التحديد الواضح للجوانب المضيئة في التعليم الذكي.

ميزات التعليم الذكي
يمتاز التعليم الذكي بثلاث مزايا رئيسية، أولاها هي إتاحة التعليم للجميع، ولا يمكن التهوين بأي حال من هذه الميزة، فإذا لم تتوفر للجميع الخدمات التعليمية التي تقدمها أو المعرفة المتاحة لديك فأنت لا تقدم تعليماً بالطريقة الذكية، لأن الحواجز تبقى موجودة والأبواب تظل موصدة في وجه الكثيرين ممن لن يحصلوا على حقهم في التعليم والحياة الكريمة التي يستحقون.

وما أنجزناه في الجامعة الذكية من حيث إتاحة التعليم للجميع هو استيعاب الدارسين على نطاق واسع، وذلك في ضوء إعادة تعريف نموذج الدارسين في الجامعة، لأننا نعتقد أنه لا بد أن تتمكن الجامعة من التأثير في المجتمع. أليس ذلك ما يتطلع إليه جميع العاملين في مجال التعليم في نهاية المطاف وما تهدف إليه السياسات الحكومية المتصلة بالتعليم؟

في هذا الجزء من المدونة تناولت المفاهيم الأساسية الأربعة في التعليم وماهية التغييرات المطلوبة في كل منها، والتحديات التي تواجه التعليم التقليدي، وبدأت بإلقاء نظرة على الميزة الأولى من ميزات التعليم الذكي. وفي الجزء الثاني من المقالة سوف أتناول الميزات الأخرى للتعليم الذكي مستعرضاً النموذج الرائد للتعليم في الجامعة، مع الإشارة إلى المبادرات الهامة التي تشكل معالم لافتة في مسيرة الجامعة، ومبيناً على نطاق أوسع وأشمل التحديات الراهنة والمستقبلية التي تستدعي حلولاً لا يوفرها إلا التعليم الذكي.