التميز في مدارس المستقبل

لم تعد هناك أي صناعة هامة على المستوى الوطني لم تتأثر تأثراً جذرياً بالتطورات التقنية المذهلة، فهل يبقى التعليم بمنأى عنها؟  

يقول سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، في إحدى تغريداته: 

لعله لا يمكنني حصر الأمثلة على هذا الشغف بالمستقبل الذي يبدو جلياً في جميع المبادرات التي يطلقها سيدي صاحب السمو، حفظه الله. غير أنني كنت ولا أزال شاهداً (ومشاركاً في العمل) على تجربة تعليمية نموذجية تعد مثالاً في قدرتها على استباق المستقبل، لأنها تأسست على فكرة استشرافه والاستعداد له، وسأقدم في هذه السطور التالية لموضوعي بهذا المثال.

في عام 2002، عندما لم تكن لدى وزارات التربية والتعليم العالي في دول مجلس التعاون الخليجي خاصة، ولا العالم العربي عموماً، أي معايير معروفة لترخيص واعتماد نماذج تعليمية بخلاف التعليم التقليدي المعروف، تفضل سموه بإطلاق مبادرة التعليم الذكي، وتلا ذلك افتتاح سموه لجامعة حمدان بن محمد الذكية في العام 2002. ومن نافلة القول أن صاحب السمو كان يرى بعين المستقبل الاتجاهات التي ينبغي للتعليم أن يسلكها في قادم الأيام، ولذلك طرح سموه على جميع المعنيين بالتعليم في الدولة هذا التحدي في التحول إلى هذا النهج من التعليم الذي لم تعهده المنطقة من قبل.

مضت عشر سنوات على هذه المبادرة السباقة قبل أن تبدأ دول المنطقة في استكشاف نقاط الضعف التي ينطوي عليها التعليم التقليدي والبحث عن بدائل لهذا النمط من التعليم، وكان أن استقر رأي الكثيرين من مسؤولي التعليم والمعنيين به على امتداد العالم على خيار التعليم الذكي، وراح الكثيرون من المعنيين بالتعليم والقائمين على أموره يتداولون تعبير "مدارس المستقبل" ويبحثون مواصفات هذه المدارس والمعايير التي يجب أن تحققها كي تساعد في سد الثغرات المتأصلة في التعليم التقليدي ومعالجة المآخذ التي ينطوي عليها.

مخرجات التعليم في مدارس المستقبل

من المفارقات التي تنطوي عليها منظومة التعليم التقليدي أنها تضع في اعتبارها صورة المتعلم الذي يحقق شروط القبول والتسجيل فيها من حيث العمر والقدرات الذهنية الأخرى. وفي تصوري أن من أهم المآخذ على هذه المنظومة أنها لا تولي توقعات الأطراف المعنية بالتعليم الأهمية المستحقة، وحتى حين تتناول هذه التوقعات، فإن التركيز ينصب على ما تتوقعه هذه الأطراف من حيث المباني والتجهيزات وما إلى ذلك، في حين تتغافل المنظومة عن أهم أركان العملية التعليمية ألا وهو المتعلم. ويأتي هذا التغافل انعكاساً لافتقاد المدرسة لنموذج المتعلم الخريج. ويعني ذلك غياب صورة مستقبلية واضحة للمتعلم الذي يتخرج من المدرسة، بعد أن يكون قد قضى فترة من عمره لا يستهان بها متنقلاً خلال مراحل هذه المنظومة. وأقصد بالصورة الواضحة مجموع القدرات الذهنية والفكرية، والسمات الشخصية والاجتماعية، والمهارات الوظيفية والمعارف العلمية المكتسبة في ختام مسيرة التعليم.

فإذا كان لمدارس المستقبل أن تتلافى هذا الخلل وأن تتحلى بصفة التميز، فلا بد أن تكون صورة خريج مدرسة المستقبل واضحة. بمعنى أن يكون نموذج الخريج محدد المواصفات والسمات (مخرجات التعليم). وإذا كانت المدرسة تسعى وراء التميز فلا بد من أن يؤدي تحقيق التميز في هذه المدارس إلى امتداد التميز إلى ما تقدمه من مخرجات. ولكن قبل ذلك لا بد لنا من تحديد هذه المخرجات. في هذا الشأن، أقترح خمس نقاط أساسية تمثل مخرجات تعليمية للتميز في مدارس المستقبل:

التميز العلمي
الاستعداد للإبداع وتحليل المواقف
التشبع بحب المعرفة
القدرة على التواصل مع الغير والعمل ضمن فريق
الاعتزاز بالهوية الوطنية والشعور بالانتماء
تمثل هذه السمات، وفق ما أرى، بنوداً مرجعية لمواصفات الخريج بعد تأهيله في مدارس المستقبل. وينطلق اقتراحي هذا من مبدأ بسيط يقول إنك عندما تعلم الغاية التي تريد الوصول إليها يسهل عليك أن تحدد الطريق التي تسلكها لتحقيق هذه الغاية، وبعبارة أخرى، إن وضوح الأهداف ينعكس وضوحاً في الإستراتيجية وخطة العمل. من هنا تنبع أهمية تحديد مخرجات التعليم في مدارس المستقبل. إلا أن المستقبل لا يمكن أن يسلم قياده للتنبؤات والدراسة والتخطيط، إلا إن كانت هذه الخطط شاملة لما ينطوي عليه المستقبل من مصاعب ومشكلات عويصة لا غنى لنا عن الاستعداد لها.

تحديات المستقبل

لا شك أن الاستعداد لمواجهة هذه المصاعب والمشقات يشمل الاستجابة للواقع بالمسارعة للتغيير والتكيف مع المستجدات، وبعبارة أخرى، إن أي تطوير أو تحديث يستدعي تغييراً من نوع ما. لكن ما الحاجة للتغيير؟ ولماذا لا نركن للواقع الراهن ونكتفي بما اعتدنا عليه؟ وما الذي يدعونا إلى تجشم عناء التغيير؟ وما هي التحديات التي يضعها المستقبل أمامنا والتي تفرض علينا التحول من نمط تعليمي ساد لعقود طويلة إلى نمط آخر لم تتبين بعد ملامحه بجلاء؟ 

من الواضح أن تحديات المستقبل تمثل المحرك الأول وراء لجوئنا إلى إعادة النظر في النموذج السائد في التعليم، واستكشاف مستقبله، والمبادرة إلى العمل على إعادة هندسة التعليم، وابتكار نموذج جديد يستجيب لنداء التحديث ومقتضياته.

تنقسم هذه التحديات حسب طبيعتها إلى تحديات علمية واقتصادية واجتماعية وسياسية. في هذه المقالة، سأقصر الحديث على المجموعتين الأولى والثانية من هذه التحديات (العلمية والاقتصادية)، لأن الكثير من المؤلفين والكتاب تناولوا بإفراط المجموعتين الأخريين (الاجتماعية والسياسية)، ولأن المجموعتين الأوليين من التحديات على علاقة أوثق من غيرهما بموضوع التعليم (للاستزادة بخصوص هذه التحديات).

تعد التحديات العلمية أخطر تحديات المستقبل على الإطلاق، وهي ناجمة عن فجوة علمية وتقنية هائلة بين دول الغرب ودول الشرق العربي. ويمكنني أن أوجز بعض ملامحها في الثورة العلمية المذهلة وتطبيقاتها، والانفجار المعرفي الهائل، والتطور المتسارع في تقنيات الاتصالات والمعلومات، والحاجة الماسة للبحث العلمي إذا ما أردنا إنجاز أي تقدم على أي صعيد، الأمر الذي لا يستغنى عنه إذا أرادت بلدان المنطقة عدم الاكتفاء باستيراد التكنولوجيا الجاهزة، بما ينطوي عليه ذلك من نتائج لا تحمد عقباها ومخاطر جسيمة حتى على المستوى الوطني.

وتنبع خطورة التحديات الاقتصادية من أن الاقتصاد يمثل شريان الحياة بالنسبة لأي دولة، ولا يخفى على القارئ ما تعانيه دول المنطقة من تحديات بهذا الشأن، فمن ضعف قدرة الصناعة على تلبية الطلب المحلي، إلى الخلل القائم في هيكل الإنفاق لصالح الاستهلاك عوضاً عن الادخار والاستثمار، إلى تعاظم الاعتماد على العمالة الوافدة على حساب العمالة الوطنية. كل هذه العوامل أدت إلى اختلال هائل في سوق العمل، هذا فضلاً عن ضعف مشاركة المرأة في الأنشطة الاقتصادية. يضاف إلى ذلك بروز اتجاهات اقتصادية عالمية جديدة مثل الاقتصاد القائم على المعرفة واقتصاد الابتكار، وهي مفاهيم مختلفة جذرياً عن مفهوم الاقتصاد التقليدي.

ومن انعكاسات هذه التحديات الاقتصادية على الواقع التعليمي يمكن أن نشير إلى أن الاقتصاد التقليدي يركز على الكم وتكمن قيمته الحقيقية في ضخامة الإنتاج. وفي ظل هذا الاقتصاد، تتباهى المدارس بعدد الطلبة المسجلين فيها وعدد الخريجين وضخامة عائداتها المالية. ومن البديهي أن اقتصاد المعرفة، مثلاً، بعيد كل البعد عن هذه المعايير، إذ أن القيمة الحقيقية فيه تكمن في إنتاج القيمة والتركيز على الإبداع والابتكار وصقل القدرات والمهارات والخبرات البشرية.

مواجهة التحديات

يقتضي الوعي بهذه التحديات والإقرار بها الاستعداد لمواجهتها، ولا يمكن مواجهة مثل هذه التحديات إلا بتخريج أجيال من المتعلمين لديهم القدرة على التصدي لها، من خلال التزود بالعلم والمعرفة والتسلح بالرغبة الأكيدة في الحفاظ على مكتسبات الوطن، من رخاء ورفاهية واستقرار، والتمسك بالقيم الأصيلة والاعتزاز بالهوية الوطنية والانتماء.

وبديهي أن المدرسة هي المنطلق لتنشئة هذه الأجيال وإعدادها الإعداد الأمثل الذي نطمح له، وبالتالي ينبغي على المدارس بدعم من الإدارات التعليمية والمركزية أن تنهض بالمسؤولية الملقاة على كاهل التعليم حتى في مراحله الأساسية. وبعد أن استبانت لنا مخرجات التعليم المنشودة من مدارس المستقبل والتحديات التي تحول بيننا وبين تأهيل الطالب على هذه الصورة التي تعرضها المخرجات، يبقى لنا أن نتبين كيفية مواجهة هذه التحديات والانتقال نحو تحقيق هذه المخرجات.

بهذا الشأن، يمكنني القول أنه لا بد للمدارس من تبني مجموعة من المبادرات والتدابير التي تيسر لها إنجاز هذه المهمة، وهي مهمة تتطلب إنتاج منظومة شاملة من المعايير الحديثة الكفيلة بتحديث العملية التعليمية تحديثاً يشمل كافة أركانها المعروفة: المعلم والمتعلم ومنهج التعليم وبيئة التعليم (اقرأ مقالي عن تطوير أركان العملية التعليمية). فماذا عن هذه المبادرات والتدابير اللازمة لمواجهة تحديات المستقبل وإنجاز مخرجات التعليم؟

فيما يلي أتناول طيفاً من هذه المبادرات (للمزيد عنها: كتاب "الطريق إلى ’رؤيتي‘").

التوسع في التعليم الذكي

لا أبوح بسر إذا قلت إن التعليم التقليدي دخل مرحلة أصبح فيها غير قادر على مواجهة متغيرات العصر الحديث، وأنه قاصر عن مواكبة الطوفان المعرفي الذي اكتسح كل جانب من جوانب حياتنا، ناهيك عن مجال التعليم، وذلك لسبب بسيط مؤداه أن الأمر يصبح أشبه بسباق بين سائر وطائر، فأين وجه المواكبة إذن؟ علاوة على ذلك، لم يعد خافياً أن تأبيد التعليم التقليدي (بمعنى إطالة عمره خارج مدة صلاحيته)، بما يعنيه ذلك من الاعتماد على الكتاب المدرسي وانتظار المطبعة لإخراج "المكررات" الدراسية، لن يؤدي إلا إلى مزيد من تعميق الفجوة التي تحدثنا عنها. ولا جدال أن هذه الفجوة العلمية والتقنية لا يمكن تداركها أو تضييقها إلا من خلال تعظيم الاستفادة من ثورة الاتصالات والمعلومات واستخدام الأدوات والوسائل التي أنتجتها هذه التقنيات.

توطين التكنولوجيا

لا يمكن لعاقل أن يهون من حجم التغييرات والتحولات التي طرأت على حياتنا، لا سيما أن هذه التغييرات كانت من السرعة بحيث أنه ليس من اليسير علينا اليوم تخيل العودة لنمط الحياة اليومية الذي كنا نعيشه قبل عقدين. وقد جاءت هذه التحولات نتيجة لانتشار الحواسب والهواتف المحمولة وتطور برمجياتها وتطبيقاتها إلى درجة أصبح من المستهجن خلو بيت من حاسوب أو خلو يد من جهاز هاتف ذكي. ويكفي أن تسأل نفسك كم من الوقت يمكنك الاستغناء عن هذا الجهاز الذكي دون أن تشعر بحاجة إلى البحث عنه.

مع هذا النمط من الحياة السائد في مجتمعاتنا، يصبح إدخال تخصصات دراسة الحواسب والبرمجة ولغاتها أمراً لا يستغنى عنه إذا ما أردنا تحقيق هذا الهدف ألا وهو توطين التكنولوجيا، الأمر الذي إذا لم يتحقق سريعاً فلا مناص لنا من الاعتماد على أمم أخرى والبقاء في انتظار "عطائها التقني"، إن شاءت منحت وإن شاءت منعت. بدلاً من ذلك، يمكننا اتخاذ خطوات جدية للتركيز على تمكين أبنائنا، وهم لا يزالون في مرحلة الدراسات الأولى، من هذه العلوم العصرية والاستفادة من النتائج التي تأتي بعد ذلك والتي لا بد لها لرفد مسيرة التقدم والازدهار.

الاهتمام بالبحث العلمي

يمثل البحث العلمي حجر الزاوية في الإبداع والابتكار، فلا عجب أنه لا يمكن لأي أمة أن تتقدم مع اكتفاء مدارسها بالاعتماد على التعليم التقليدي الذي لا يولي للبحث العلمي أي أهمية تذكر إذا ما تعلق الأمر بالمدارس، رغم أنه لا بد من البحث العلمي إذا ما أردنا إعداد الطالب لدخول المرحلة الجامعية دون خوف أو رهبة. وما ذلك إلا لأن البحث العلمي يساعد الطالب على التخلص من القوالب الفكرية والنظرية الجامدة التي تجاوزها الزمن، من حيث أنه ينمي لديه مهارات أساسية في التفكير العلمي مثل القدرة على الاستنتاج والقياس، والقدرة الذهنية على التحليل والاستنباط والاستقراء، وربط المقدمات بالنتائج، إلى آخره.

ترسيخ مفهوم التعلم مدى الحياة

رغم أن هذا مصطلح "التعلم مدى الحياة" وفد إلى العربية عن طريق الترجمة، إلا أن مدى الحياة لا تعني شيئاً أكثر من "من المهد إلى اللحد" التي وردت في القول المأثور "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد". ولعل التأكيد على اتباع هذا النهج في مدارسنا وغرسه في نفوس الطلاب أمر في غاية الأهمية، ذلك أن العلم والمعرفة مسيرة ممتدة لا نهاية لها، لا بالتخرج ولا بالحصول على الشهادات، فمتى توقف الإنسان عن التعلم تراجع إدراكه وانحسرت معارفه. يضاف إلى ذلك أن هذا الموقف من اكتساب العلم ينسجم كلياً مع نشر التعليم الذكي، لأن الأخير (التعليم الذكي) يجعل من التعلم مدى الحياة هدفاً أيسر مما كان في أي وقت مضى.

وضع معايير اعتماد المدارس

على غرار المعايير التي تطبقها هيئة الاعتماد الأكاديمي التابعة لوزارة التربية والتعليم لشؤون التعليم العالي والبحث العلمي في ترخيص الكليات والجامعات لممارسة العمل في مجال التعليم العالي، ينبغي وجود معايير حديثة لاعتماد المدارس لممارسة العمل في مجال التعليم العام، بما يتوافق مع مستجدات العصر، على أن تشمل هذه المعايير كافة عناصر العملية التعليمية، كشرط أساسي لمدارس المستقبل كي تستحق صفة التميز وكي يكون لمنظومة التعليم العام القدرة على تقديم مخرجات التعليم المنشودة.

ختاماً

في رأيي أن هذه المبادرات والتدابير أصبح تطبيقها يمثل حاجة ماسة لمواجهة التحديات التي يطرحها المستقبل في طريقنا، وتأهيل أبنائنا التأهيل اللازم في ضوء مخرجات التعليم المنشودة. هكذا يمكن لمدارس المستقبل تخريج أجيال لديها كفاءات التميز العلمي، والاستعداد للإبداع وتحليل المواقف، والتشبع بحب المعرفة، والقدرة على التواصل مع الغير والعمل ضمن فريق، والاعتزاز بالهوية الوطنية والشعور بالانتماء، وهي كفاءات تتكامل وتتناغم مع حس الشغف بالمستقبل الذي يشكل أحد أسرار نجاح دولة الإمارات.