كيف نُعِدُّ أبناءنا للدراسة والعمل والحياة؟

الاستخفاف بالتعليم وتسريب أسئلة الامتحانات وشراء الشهادات المزورة نتائج ناجمة عن مفهوم خاطئ في تسويغ التعليم والدراسة، فما الحل؟


​ربما تكون عبارة "لا أريد الذهاب إلى المدرسة" إحدى أكثر العبارات شيوعاً في مطلع العام الدراسي، مع اختلاف اللغات واللهجات والصيغ التي تقال بها كل صباح. غير أن هذه المقالة لن تناقش افتقاد بعض الطلاب للحماسة والشغف لارتياد المدرسة، بل تتوخى طرح السؤال: ما السبب الذي يجعل أبناءنا يرتادون المدارس، ولماذا نرسلهم إلى المدارس والجامعات لسنوات طويلة، ولماذا عليهم إنفاق كل هذه السنوات من أعمارهم في التحصيل الدراسي؟ سؤال يبدو جوابه بديهياً ومفروغاً منه، لكنه ليس كذلك. فلو طرحنا هذا السؤال على أولياء الأمور، لجاءتنا إجابات عديدة، وقد يكون منها الإجابة العفوية "من أجل التعليم"، فإذا ما رددت على هذه الإجابة بسؤال "ولماذا التعليم؟" فماذا ستكون الإجابة لو توخى المجيب الصراحة؟

لا شك أن الردود على هذا السؤال لن تخرج عن قائمة "بنك الأهداف" المعروفة التي نحشرها في عقولهم وهم لا يزالون يخطون خطواتهم الأولى نحو المدرسة، وهذه الأهداف التي نضعها نصب أعينهم تشمل: "لكي تحصل على الشهادة وتعثر على وظيفة وتصبح قادراً على إعالة نفسك"، أو "لكي تصبح شخصية ذات مكانة مرموقة في المجتمع"، أو "لكي تحمل لقب دكتور"، وسواها من الأسباب التي لا تخرج بعيداً عن هذا النطاق.

مزودين بهذه التبريرات التي تستشرف مستقبلهم المهني والمالي، يرتاد أبناؤنا المدارس وقد استقرت في نفوسهم فكرة أن التعليم إنما كان لتحقيق هذه الأغراض، لا لشيء آخر. باختصار، يصبح العلم لديهم وسيلة لنيل الشهادات والارتقاء في سلم المكانة الاجتماعية وربما جني الثروة، رغم أنه يندر أن تجد اليوم من يراهن بدرهم على أن كسب العلم هو الطريق القصيرة إلى جني الثروة.

ولما كان من المتفق عليه أن إعداد الدارسين للعمل والحياة يبدأ من المنزل ويستمر في المدرسة والجامعة ولا يتوقف بعد التخرج، فإن السؤال الذي لا بد أن نطرحه: هل من الممكن لمبررات التعليم آنفة الذكر التي نسوقها لأبنائنا، إعداد أبنائنا وبناتنا للعمل والحياة على أكمل وجه، ورسم خريطة طريق مثلى لهم نحو المستقبل؟

للإجابة على هذا السؤال، يكفينا أن نتأمل إلى أين يمكن أن تؤدي مثل هذه الذهنية التي تتغاضى عن لب القضية وجوهرها. ولعلي أزعم أن عواقب هذه التنشئة ليست حميدة البتة، لا بل إن لها عواقب وخيمة. فما هي عواقب غرس هذه الذهنية "الوصولية" في عقول أبنائنا منذ مراحل نموهم المبكرة ودراساتهم الابتدائية والإعدادية؟ وكيف يمكن أن تتحول هذه الفكرة إلى "صندوق للشرور" نعاني ويعاني أبناؤنا من تبعاته حتى بعد مغادرتهم المدرسة والجامعة، وانخراطهم في ميادين العمل والحياة؟

يكمن خطأ هذا النهج في التوجيه والإعداد في أن الدارسين سيكون لديهم هدف واحد يحلمون بتحقيقه (الحصول على الشهادة) بغض النظر عن طريقة تحقيق هذا الهدف، ولن يتورعوا عن القيام بأي شيء في سبيله. وثمة نتيجة أولى لا يمكن تفاديها مع هذه "الغائية المغلوطة" التي نقرنها بضرورة التحصيل العلمي، ألا وهي الاستخفاف والاستهانة بالتعليم. فإذا كان كسب العلم والمعرفة ليس الأرب المنشود لحضورهم في قاعات الصف والمحاضرات إلا بالقدر الذي يحقق فيه تلك الأغراض، فلن يأخذوا تعليمهم على محمل الجد، ولن يحرصوا على إيلاء الانتباه والاهتمام لمدرسيهم ودروسهم داخل المدرسة أو خارجها، لا سيما إذا توافرت إمكانية النجاح في الامتحانات عبر طرق أخرى أيسر وأقل عناء (سيرد ذكرها لاحقاً).

مثالاً على ذلك، وما دامت الامتحانات هي العقبة أمام مستقبلهم، فلماذا لا يتجاوزون هذه العقبة بأساليب غير الدراسة والكد والاجتهاد، من قبيل الغش في الامتحانات؟ ولماذا تقليب الصفحات وسهر الليالي والناس نيام، ما دام يمكن بشيء من الحيلة والشطارة اجتياز الامتحان عبر استخدام ورقة "مهربة" إلى القاعة أو الاستعانة بصديق أو ربما اللجوء إلى وسائل "تقنية" استجدت مع تطور وسائل الاتصال؟

وقد تبدو هذه الطريقة (الغش في الامتحان) بدائية وتحتمل افتضاح أمر الطالب وتعرضه للإحراج في أقل التقديرات إن "ضبط بالجرم المشهود"، فلماذا لا يأخذ دور "الزبون" ويلجأ إلى شراء أسئلة الامتحانات، ما دام يجد مدرسين (أو بالأحرى باعة) داسوا على ضمائرهم أو ألقوها في جب سحيق لا قرار له، فلا وازع لديهم من دين أو خلق يمنعهم من تسريب الأسئلة وبيعها لطلابهم مقابل حفنة من الدراهم؟

هذا هو الجزء الأول من المقالة، وفي جزئها الثاني، نتابع في النتائج السلبية لهذا المنهج على مستقبل أبنائنا، ثم نعرض للحل الذي ينبغي لنا اتباعه في تصحيح هذا المفهوم.