كيف نُعِدُّ أبناءنا للدراسة والعمل والحياة؟ ...الجزء الثاني

في الجزء الأول من المقال تحدثنا عن مفهوم شائع لتبرير التحاق أبنائنا بالتعليم والتداعيات السلبية لهذا المفهوم، وفي هذا الجزء الثاني نتابع الآثار الضارة لهذا المفهوم، ثم ننتقل إلى تحديد المنهج الصحيح الذي ينبغي اتباعه لتنشئة أجيال تؤمن بقيم الابتكار والإبداع والتميز. 

ولعل الأمر لا يقف عند شراء أسئلة الامتحانات، بل يتجاوزه إلا ما هو أدهى وأمر، إذ ربما كان الراغب بالشهادة في عمر لم يعد معه من المجدي شراء أسئلة الامتحانات، بمعنى أنه تجاوز مرحلة الجلوس في قاعة الامتحان، فما المانع من شراء الشهادة برمتها ودفعة واحدة، ولو كانت تغص بأختام زائفة، من خلال صفقة واحدة مع الشيطان؟  وليس الشيطان هنا سوى "دكاكين الشهادات العلمية" المنتشرة انتشار النار في الهشيم في سوق سوداء جديدة تتمدد كل يوم في فضاء الإنترنت. وكم من سذج وقعوا فرائس في أشراك "بقاليات العلم" هذه، وأهدروا مالهم وسمعتهم في السعي وراء "سراب العلم المزور"، وكم سمعنا وقرأنا من قصص عن كوادر في مجالات مختلفة مثل الطب والهندسة والتعليم تمارس هذه المهن ردحاً من الزمن ثم ينقشع ضباب الخداع وينكشف أمرهم وأمر شهاداتهم المشتراة، ولك أن تتخيل حجم الأخطاء و "الجرائم" التي يتعرض لها المجتمع نتيجة غياب الكفاءة العلمية لدى هؤلاء ولهاثهم خلف حرف الدال المنقوط (د.) وألقاب علمية لا طائل منها سوى المباهاة وإرضاء الغرور.

هكذا نرى أن مثل هذه الذهنية (ذهنية "التحق بالمدرسة لكي ...") التي تبدو "بريئة" في الظاهر ليست سوى منحدر زلق نضع أبناءنا على قمته ثم ندعهم وشأنهم، على نحو قد يودي بهم إلى الهاوية. وما ذلك إلا لأننا أقنعناهم أن التعليم مرحلة تنقضي بالنجاح في الامتحان والحصول على ورقة ممهورة بالأختام البراقة، وأن الغاية من وراء العلم هي المال والمكانة والوظيفة، وهذا بدوره جعلهم يتبنون المبدأ المكيافيلي (عن لا وعي ربما) المتمثل في أن الغاية تبرر الوسيلة. بمعنى أنه ما دامت الوسيلة (الغش، شراء الامتحانات أو الشهادة، إلى آخره) توصلهم إلى مبتغاهم، فلا ضير فيها، حتى إن كان من المحتمل أن تجر على صاحبها الويل والثبور وعظائم الأمور.

وبعد تبيان مكمن الخطأ الذي نرتكبه في توجيه أبنائنا وإرشادهم وإعدادهم للدراسة، نتساءل ما هو النهج البديل الذي ينبغي لنا أن نأخذ بأيدي أبنائنا إليه، ونحرص على استيعابهم له وتقديرهم لأهميته؟ وكيف ندرأ عن أبنائنا أخطار هذه المنزلقات الخطيرة التي يدفعهم إليها سلوك الطرق المختصرة الشائكة والسبل السهلة المهلكة؟ هنا لا بد لنا أولاً من الكف عن ترغيب الأبناء بالدراسة بإغرائهم بالثروة والمكانة والألقاب الرنانة التي يكتنزها لهم المستقبل، والاستعاضة عن ذلك بفكرة "العلم من أجل العلم"، وإقناعهم أن العلم ليس وسيلة لنيل الشهادات أو جني الثروات، وإنما هو غاية الغايات، وأن الثروة أو المكانة الاجتماعية المرموقة أو الوظيفة المحترمة تأتي تباعاً وتتويجاً لسنوات الجد والاجتهاد.

علاوة على ذلك، فإن الدارس حين ينطلق من فكرة "العلم من أجل العلم"، يصبح البحث عن جواب سؤال يشغله مسعى شخصياً يأخذه على عاتقه، وإن لم يكن مكلفاً بإيجاد جوابه من أجل النجاح في مقرر ما، وتصبح قراءة كتاب مصدر متعة وبهجة بدلاً من أن تكون عبئاً ثقيلاً يملى عليه من أستاذه أو مفروضاً في المنهاج الدراسي. هكذا يكون الدارس على استعداد لتكريس وقته وجهده بإخلاص وتفان بحثاً عن المعرفة وسعياً وراء تعميق معلوماته، وهكذا يكون قد استوعب معنى "إن العلم لا يعطيك بعضه ما لم تعطه كلك". هذا هو الدارس المؤهل للانتقال من رهاب الامتحان إلى شغف الاكتشاف، من الحفظ والاستظهار إلى البحث والابتكار.

بالتحول إلى هذه الذهنية "التعليم من أجل التعليم"، نغدو أقدر على تنشئة جيل يكرس نفسه للعلم والمعرفة، جيل قادر على الابتكار والإبداع لأنه يكون قد عرف للعلم جلاله وهيبته، وآمن بقدرة العلم على اجتراح المعجزات، وهذه هي الفكرة التي أجمع عليها رواد الإنسانية وقادتها، وهذه هي الحقيقة التي توصل إليها علماء البشرية وزعماؤها. يقول بنيامين فرانكلين: "الاستثمار في المعرفة دائماً يأتي بأعظم فائدة،" ويقول فيثاغورث: "من حب المعرفة يأتي العديد من الإنجازات"، ويقول المهاتما غاندي: "عش كما لو كنت تموت غداً، وتعلم كما لو كنت تعيش أبداً".

بهذا النهج من التوجيه والإعداد، يمكننا إعداد الدارسين للعمل والحياة ووضعهم على بداية السبيل القويم. يقول سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، "يجب أن ندعم تعليمنا الابتدائي بمؤسسات قادرة تثري المعرفة وتعزز الإبداع والابتكار وتشجع على المبادرة وتحفز الطموحات وتعد المواهب الإدارية لقيادة المجتمع والأعمال." (رؤيتي: ص 197)، ويقول الله تعالى في كتابه العزيز: ‏﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 9)‏ .