مستقبل التعليم العالي

مؤسسات التعليم العالي التقليدية تؤهل الخريجين لعالم منقرض أو في سبيله إلى الانقراض. فما العمل؟

تخيل...

تخيل أن تدخل إلى مستشفى في شأن طبي أو صحي، وتجد المستشفى يقدم خدماته على النحو الذي كان سائداً قبل قرن أو يزيد. فلا وجود لأجهزة التشخيص الحديثة مثل أجهزة الأشعة والمناظير، ولا أثر لوسائل العلاج الحديثة مثل تلك التي تقيس الضغط والنبض وما إلى ذلك.

أو تخيل أن الشرطة ما تزال تقدم خدمتها الأمنية للجمهور بالصورة التي كان يحصل عليها أجدادنا، فلا وجود لسيارات الدورية في الشوارع، بدلاً من ذلك تنظر فترى الشرطة يركبون الخيول والبغال. لا أقصد في المسيرات الاستعراضية ولا المناسبات الاحتفالية، بل في أداء الخدمة نفسها وعلى طول الوقت.

أو تخيل أن تدخل قاعة محاضرات في جامعة في القرن الحادي والعشرين، فترى الطلاب يجلسون في صفوف متوازية من المقاعد لا عمل لهم سوى الإصغاء للمحاضرة، دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة.

في الواقع، لست بحاجة لأن تتخيل الصورة الثالثة لأنها ما زالت قائمة في أغلبية الجامعات ومؤسسات التعليم العالي على امتداد العالم، ومن المؤكد أن الصورة أدهى وأمر في العالم العربي.

هذه الصورة الأخيرة ظلت كما كانت قبل قرن أو يزيد، كأنها عصية على رياح التغيير. وذلك على عكس الصورتين الأولى والثانية اللتين أكل الدهر عليهما وشرب، على الأقل في أي مدينة تدعي الانتماء إلى القرن الحادي والعشرين.

لو أمعنت النظر في كل الخدمات التي يحصل عليها الإنسان في العصر الحديث، لما فات عينيك أن التكنولوجيا أحدثت فيها جميعاً تغييرات كاسحة، فما الذي يجعل التعليم العالي يراوح مكانه، أو في أحسن الأحوال لا يستفيد من هذه التطورات المذهلة إلا على استحياء؟

عديدة هي الأسباب، وأوضحها:

مخاوف متوهمة

يرى البعض أن التعليم التقليدي، حتى في مؤسسات التعليم العالي، هو الأصل، وأنه يحظى بثقة أكبر كوسيلة لتلقي العلوم والمعرفة، وأن التعليم الذكي ما زال على شفا جرف هار لم تعرف نتائجه بعد، الأمر الذي يجعله مخاطرة غير مأمونة العواقب. ومن ثم يفضل أصحاب هذا الاتجاه الركون لما كان نتيجة التوجس مما يكون (تذكر هنا: " إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ" الزخرف:22). هكذا يأتي الاكتفاء بالتعليم التقليدي إيثاراً لسلامة مفترضة ودرءاً لمخاوف متوهمة.

والواقع أن ظلمة الخوف من الجديد هي طبيعة إنسانية متأصلة لا تلبث أن تتبدد إذا غمرها نور المعرفة، وكشف فضلها وفضيلتها إلى درجة يندثر معها ذلك الخوف، ويسود فيها وارد العصر الجديد بكل ما يحمله من خير وافر لبني البشر.

من قبيل إنصاف التجارب الرائدة، صحيح أننا على مستوى الدولة قطعنا شوطاً في مسيرة نشر التعليم الذكي، لكنني أعتقد أن هذا التعليم لا يزال يخطو خطوات تقليدية لا تتسق وطموحات الأجندة الوطنية وأهدافها، فكيف يتسنى لنا تحقيق هذه الأهداف إذا لم نعد النظر في المبادرات ونطلق مبادرات مبتكرة؟ (للاستزادة حول التجارب السباقة في تطبيق التعليم الذكي، انظر كتابي "الجودة ومستقبل التعليم العالي"). 

لكن ما الذي يمتاز به التعليم الذكي عن سلفه التقليدي لكي يبرر إصرارنا على أنه الخيار الأنسب لحرف مسيرة التنمية في العالم العربي عن اتجاه المنحدر الزلق الذي أراها ماضية إليه، وما الذي يجعله الوسيلة المثلى لتطوير منظومة التعليم العالي ومواجهة تحديات العصر وتلبية متطلبات التنمية المستدامة؟

في السطور التالية أتحدث عن عناصر التعليم الذكي ومرتكزاته، كعاملين من جملة العوامل التي تجعل من التعليم الذكي الطريق الذي ينبغي للتعليم العربي أن يسلكه إذا أردنا اغتنام ما يحمله المستقبل من فرص على جميع المستويات.

عناصر التعليم الذكي

يقوم التعليم الذكي على عدة عناصر أهمها:

1) تعظيم دور المتعلم في العملية التعليمية: يتحول المتعلم من مجرد متلق إلى منشئ للمعرفة.

2) بث النشاط والحيوية في العملية التعليمية: دفع المتعلم إلى معايشة الخبرات والتجارب الذاتية، وتدريبه على تحليل المواقف، وتقييم الأحداث والأشخاص، والتوصل لحلول إبداعية للمشكلات.

3) تحقيق المرونة وتيسير الاتصال: مرونة الأوقات، وتوسيع دائرة الاختيار، واختيار المعلم، وتيسير الاتصال مع الزملاء، والاطلاع على المعلومات.

4) توسيع مصادر المعلومات والمعرفة: الهواتف النقالة، والمواقع على شبكة الإنترنت، التواصل الاجتماعي.

5) استخدام بيئة تكنولوجية ذكية: الحاسوب الشخصي، والمكتبات الإلكترونية، والكتب الرقمية.

مرتكزات التعليم الذكي

اكتساب المعرفة

يهتم التعليم الذكي بتعميق البعد المعرفي لدى المتعلمين وتنمية قدراتهم الذاتية ودعم كفاءة الأداء لدى العنصر البشري في كافة المجالات الحياتية، سواء كانت تتعلق بالعلم أو العمل، ذلك أن تنمية الموارد البشرية تمثل محور اهتمام التعليم الذكي.

استخدام مواقع التواصل الاجتماعي

يرتكز التعليم الذكي على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في العملية التعليمية تحقيقاً لمزيد من المرونة والسهولة والشمولية.

شمولية التطبيق

أن تقوم جامعة واحدة أو عدد محدود من الجامعات بتطبيق نظام التعليم الذكي دون بقية الجامعات الأخرى التي تواصل تبني نظام التعليم التقليدي فهذا أمر لن يحقق الفائدة المرجوة والنتائج المتوقعة على مستوى المجتمع والدولة.

قصارى القول أننا أصبحنا نعيش في عصر يمكن القول فيه إنه أينما وجد هاتف محمول فثمة بنك، وثمة وسائل مواصلات، وثمة مركز تسوق وثمة خدمات شتى أخرى. ويجب أن يكون ثمة جامعة أينما وجد هاتف محمول.

من هنا فإن استمرار وجود الخدمة التقليدية (التعليم التقليدي) في مؤسسات التعليم العالي إلى جانب الخدمة الحديثة مع استخدام التكنولوجيا (التعليم الذكي)، هي مسألة وقت لا أكثر.

وإنني لعلى ثقة أنه سوف يأتي اليوم الذي يتراجع فيه الإقبال على التعليم العالي التقليدي لصالح التعليم الذكي. قد يتأخر هذا اليوم قليلاً ولكنه آت لا محالة. ذلك ما أوضحته بالتفصيل وقدمت عليه الدليل في كتابي "الجودة ومستقبل التعليم العالي".

في الختام، يسعدني أن تشاركوني آراءكم وتجاربكم واقتراحاتكم في ركن التعليقات على هذه المدونة.