مع التاريخ أتحدث


في ختام الرسالة التي وجهها سيدي صاحب السمو الشيخ/ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، إلى شعب دولة الإمارات والتي نشرتها جريدة البيان في عددها رقم (13269) الصادر في 16 أكتوبر 2016. قال سموه: "التاريخ سيشهد علينا جميعاً".

تساءلت في دخيلة نفسي: ترى كيف سيشهد علينا التاريخ؟ ومتى يكون ذلك؟ وأمام من تكون الشهادة؟ وهل سيشهد التاريخ على جميع البشر دون اعتبار لشأنهم أو أقدارهم؟ أم أن الشهادة قاصرة على القادة والزعماء وأصحاب الهمم العالية من كبار العلماء والأدباء والمشاهير؟

ألحت عليّ هذه الأسئلة، وتملكت نفسي، وشغلت وجداني ومشاعري، وراحت تتردد في عقلي وقلبي أينما كنت وحيثما ذهبت، سواء في رابعة النهار أو في هدأة الليل، ولكنها كانت أشد إلحاحاً وتواتراً إذا أسدل الليل أستاره، وخلدت النفوس إلى النوم، وكان أمرها إلى بارئها إن شاء أمسكها وإن شاء أرسلها.

ظللت على هذه الحال لأكثر من شهرين، حتى أنني – في إحدى الليالي – تمنيت لو تجسد لي التاريخ في هيئة إنسان فأساله وأستنطقه، وأعرف منه ما قد يكون لديه من إجابات على ما يدور في خلدي من تساؤلات. وبعد أن أطفأت مصابيح الغرفة التجأت إلى فراشي، واتكأت عليه في رقدة اليقظان، والنوم يراود جفوني كحال النعسان. وبين النوم واليقظة، تراءى لي رجل مهيب الجانب، كث اللحية، تظهر عليه آثار الزمن واضحة جلية، بادرني بالسلام والرحمة، فرددت عليه ما بادرني به وأنا أشعر بوجل شديد، واندفعت أسأله: من أنت؟ وكيف أتيت إلى مخدعي؟ أجاب في تؤدة وهدوء: أنا الذي كنت تتمنى لقاءه منذ فترة طويلة ليجيب على ما لديك من تساؤلات، فها أنا ماثل الآن بين يديك. سألته متردداً أأنت التاريخ؟ قال: نعم، أنا التاريخ، هدئ من روعك، وهات ما عندك. ماذا تريد أن تعرف؟ قلت: يقول سيدي صاحب السمو أنك سوف تشهد علينا جميعاً، فهل تسجل لجميع الخلق ما يفعلون أم ... قاطعني قائلاً: أنا لا أسجل لأحد شيئاً، أنتم الذين تسجلون، إنما هي أعمالكم تكتبونها بأيديكم لا بأيدي غيركم، أما أنا فأشهد على ما تعملون فحسب. قلت: إذا كان الأمر كذلك، لماذا لا تسمعني بعض شهادتك، وتمنحني شرف السبق إلى ما لم يحققه الآخرون؟ قال: عن أي شيء تريدني أن أشهد؟ قلت: أريد أن أسمع شهادتك عن سيدي صاحب السمو القائل إن "التاريخ سيشهد علينا جميعاً"، فماذا تقول عنه؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه لواحد من أكبر الزعماء العرب الذي قدموا لوطنهم وأمتهم الكثير والكثير مما لا يمكن لأحد أن ينساه أو يتجاهله على مر العصور. دعني أقرأ عليك بعضاً مما سطره على صفحات سجلاتي وما أشهد به – شهادة حق – أمام الجميع.

وأضاف: سأدلي بشهادتي عن بعض ما قدمه صاحب السمو، فالموقف لن يتسع للحديث عن كل شيء. قلت: لا بأس، أرجوك البدء فوراً. راح التاريخ يتكلم وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح:

لقد أدرك محمد بن راشد آل مكتوم منذ فترة ليست بالقصيرة أهمية الإصلاح الإداري لجميع الأجهزة الحكومية باعتباره حجر الأساس الذي تقوم عليه نهضة الأمم. فما كان منه إلا أن أطلق ثورته الإدارية الشاملة، فكان أول من وجه بتطبيق مبادئ الجودة والتميز على كل مناحي العمل الإداري، بحيث نجح فعلاً في تغيير وجه الأداء الإداري في الدولة، الأمر الذي حدا بالعديد من الدول العربية إلى أن تترسم خطاه وتحذو حذوه، بل لعلها كثيرة تلك الدول التي لجأت إليه صراحة، تتطلع إلى الاستفادة من خبرة الإمارات، وخاصة دبي في تطبيق مبادئ الجودة والتميز على أجهزتها الإدارية. لقد نجح محمد بن راشد بحق في إرساء قواعد النهضة في الإمارات في العصر الحديث، من خلال البدء بالإصلاح الإداري. ولعلك أنت شخصياً كنت واحداً من الجيل الذي بدأ في تطبيق مبادئ الجودة والتميز في دبي، ووضع رؤية محمد بن راشد موضع التنفيذ. إن ما فعله محمد بن راشد في مجال الإصلاح الإداري لا نظير له إلا ما حدث في العام 15 هـ (636م) على يد الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما وجه اهتمامه إلى تحقيق الإصلاح الإداري في الدولة الإسلامية، وأمر بإنشاء الدواوين، وهي بمثابة اللبنات الأولى لما يعرف بالوزارات والدوائر الرسمية في هذه الأيام. ولعل أهم هذه الدواوين ديوان الجند (وزارة الدفاع)، وديوان الخراج (وزارة الخزانة)، وديوان العطاء (التأمينات الاجتماعية). ولقد كان لإنشاء الدواوين أثر بالغ في تنظيم شؤون الدولة الإسلامية، وما أحدثه الفاروق فيما بعد من إصلاحات.

لا شك أن الإصلاح الإداري الذي أحدثه محمد بن راشد كان مقدمة لإقامة البناء الحضاري والنهضة العمرانية التي شهدتها مدينة دبي على مدى الأعوام الماضية، والتي مازالت تتقدم بخطى واسعة، أو إن شئت قلت بوثبات عملاقة حققت نقلة حضارية غير مسبوقة، يسعى إليها جميع الخلائق من مختلف أنحاء المعمورة، حتى من الدول التي لها باع طويل في البناء والتشييد، كي يروا ويشاهدوا ما حققه محمد بن راشد لهذا الوطن من معجزة حضارية وهندسية مذهلة في هذا الزمن القياسي.

إن هذه النهضة الحضارية التي أقامها محمد بن راشد لا تحاكيها نهضة حضارية أخرى إلا تلك التي شيدها "أبو المدن". أعلم أن الغالبية العظمى لا تعرف من هو "أبو المدن". إنه الفاروق عمر رضي الله عنه، الذي اهتم في صدر الدولة الإسلامية ببناء المدن وهو ما كان يطلق عليه في ذلك الوقت "تمصير الأمصار". ففي عهده وبإذن وأمر منه، تم بناء الكوفة والبصرة في العراق، والفسطاط والجيزة في مصر. ولم يكن دور الفاروق يتوقف عند الإذن أو الأمر ببناء المدينة ولكنه كان أيضاً يختار موقع إقامة المدينة ويحدد اتساع شوارعها بين العشرين والأربعين ذراعاً.

كلما نظرت إلى ما يقوم به محمد بن راشد في وطنه يعيد إلى ذاكرتي معالم الحضارة الإسلامية والعربية في أزهى عصورها. إنني أشهد اليوم جهوده الحثيثة في تمكين المرأة من القيام بدور فعال في بناء وطنها، بعد أن ظلت لعصور طويلة حبيسة الجهل، ورهينة التخلف، مقطوعة الصلة بمجتمعها وأبناء وطنها، محرومة من المشاركة في جهود التنمية بدعوى المحافظة عليها تارة، وتحت ذريعة مقتضيات التقاليد العربية تارة أخرى، وبحجة ما تفرضه أحكام الشريعة الإسلامية تارة ثالثة، والإسلام من ذلك براء، حتى جاء محمد بن راشد وأخذ بيد المرأة إلى معترك الحياة العامة لتسهم في بناء صرح التنمية في جميع المواقع من أدناها إلى أرقاها في موقع الوزارة. أتعرف من الذي مكن للمرأة العربية في صدر الإسلام؟ إنه الفاروق عمر رضي الله عنه، كان ينظر إلى المرأة نظرة إكرام وتكريم، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك كان موقفه من "الشفاء بنت عبد الله العدوية" التي كان يستشيرها في كثير من أمور الدولة وكان يثق في رأيها ورجاحة عقلها، حتى أنه ولاها أمر الأسواق لتشرف عليها وترعى شؤونها. لقد استطاع محمد بن راشد بصدقه مع وطنه وأمته أن يحقق الكثير مما حققه عظماء هذه الأمة في أوج مجدها الزاهر، وأن يبعث الأمل لدى العرب في مستقبل أكثر إشراقاً.

توقف التاريخ عن الكلام، فقلت أهذا كل ما عندك؟ قال: قطعاً لا، فلدي صفحات كثيرة مضيئة لهذا الرجل ولكن الوقت داهمنا. قلت: أتعدني بزيارة أخرى تستكمل فيها شهادتك؟ قال: أعدك. قلت: إذاً إلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى.